الحج وأسراره

11:04 ص | | | 0تعليقات
الحج وأسراره




يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في الجزء الثاني من الفتوحات المكية : إن الحج في اللسان تكرار القصد إلى المقصود والعمرة الزيارة ولما نسب الله تعالى البيت إليه بالإضافة في قوله لخليله إبراهيم عليه السلام وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وأخبرنا أنه أوّل بيت وضعه للناس معبداً فقال " إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت " جعله نظيراً ومثالاً لعرشه وجعل الطائفين به من البشر كالملائكة الحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم أي بالثناء على ربهم تبارك وتعالى وثناؤنا على الله في طوافنا أعظم من ثناء الملائكة عليه سبحانه بما لا يتقارب ولكن ما كل طائف يتنبه إلى هذا الثناء الذي نريده وذلك أن العلماء بالله إذا قالوا سبحان الله أو الحمد لله أو لا إله إلا الله إنما يقولونها بجمعيتهم للحضرتين والصورتين فيذكرونه بكل جزء ذاكر لله في العالم وبذكر أسمائه إياه ثم إنهم ما يقصدون من هذه الكلمات إلا ما نزل منها في القرآن لا الذكر الذي يذكرونه فهم في هذا الثناء نوّاب عن الحق يثنون عليه بكلامه الذي أنزله عليهم وهم أهل الله بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم أهل القرآن وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته فهم نائبون عنه في الثناء عليه فلم يشب ثناءهم استنباط نفسيّ ولا اختيار كونيّ ولا أحدثوا ثناء من عندهم فما سمع من ثنائهم إلا كلامه الذي أثنى به على نفسه فهو ثناء إلهيّ قدّوس طاهر نزيه عن الشوب الكوني قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فأجره حتى يسمع كلام الله فأضاف الكلام إليه لا إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ولما جعل الله تعالى قلب عبده بيتاً كريماً وحرماً عظيماً وذكر أنه وسعه حين لم يسعه سماء ولا أرض علمنا قطعاً أن قلب المؤمن أشرف من هذا البيت وجعل الخواطر التي تمرّ عليه كالطائفين ولما كان في الطائفين من يعرف حرمة البيت فيعامله في الطواف به بما يستحقه من التعظيم والإجلال ومن الطائفين من لا يعرف ذلك فيطوفون به بقلوب غافلة لاهية وألسنة بغير ذكر الله ناطقة بل ربما يطوفون بفضول من القول وزور وكذلك الخواطر التي تمرّ على قلب المؤمن منها مذموم ومنها محمود وكما كتب الله طواف كل طائف للطائف به على أيّ حالة كان وعفا عنه فيما كان منه كذلك الخواطر المذمومة عفا الله عنها ما لم يظهر حكمها على ظاهر الجوارح إلى الحس وكما أن في البيت يمين الله للمبايعة الإلهية ففي قلب العبد الحق سبحانه من غير تشبيه ولا تكييف كما يليق بجلاله سبحانه حيث وسعه وأين مرتبة اليمين منه على الانفراد منه سبحانه ففيه اليمين المسمى كلتا يديه فهو أعظم علماً وأكثر إحاطة فإنه محل لجميع الصفات وارتفاعه بالمكانة عند الله لما أودع الله فيه من المعرفة به ثم إن الله تعالى جعل لبيته أربعة أركان لسرّ إلهيّ وهي في الحقيقة ثلاثة أركان لأنه شكل مكعب الركن الواحد الذي يلي الحجر كالحجر في الصورة مكعب الشكل ولأجل ذلك سمى كعبة تشبيهاً بالكعب فإذا اعتبرت الثلاثة الأركان جعلتها في القلب محل الخاطر الإلهيّ والركن الآخر ركن الخاطر الملكي والركن الثالث ركن الخاطر النفسيّ فالإلهي ركن الحجر والملكيّ الركن اليمنيّ والنفسيّ المكعب الذي في الحجر لا غير وليس للخاطر الشيطانيّ فيه محل وعلى هذا الشكل قلوب الأنبياء مثلثة الشكل على شكل الكعبة ولما أراد الله ما أراد من إظهار الركن الرابع جعله للخاطر الشيطانيّ وهو الركن العراقيّ فيبقى الركن الشامي للخاطر النفسيّ وإنما جعلنا الخاطر الشيطانيّ للركن العراقي لأن الشارع شرع أن يقال عنده أعوذ بالله من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وبالذر المشروع في كل ركن تعرف مراتب الأركان وعلى هذا الشكل المربع قلوب المؤمنين وما عدا الرسل والأنبياء المعصومين ليميز الله رسله وأنبياءه من سائر المؤمنين بالعصمة التي أعطاهم وألبسهم إياها فليس لنبيّ إلا ثلاثة خواطر إلهيّ وملكيّ ونفسيّ وقد يكون ذلك لبعض الأولياء الذين لهم جزء وافر من النبوّة كسليمان الدنبلي لقيته وهو ممن له هذا الحال فأخبرني عن نفسه إن له بضعاً وخمسين سنة ما خطر له خاطر قبيح ولأكثر الأولياء هذه الخواطر وزادوا بالخاطر الشيطانيّ العراقي فمنهم من ظهر عليه حكمه في الظاهر وهم عامة الخلق ومنهم من يخطر له ولا يؤثر في ظاهره .
ومن باب وجوب الحج فلا خلاف في وجوبه بين علماء الإسلام قال تعالى " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً " فوجب على كل مستطيع من الناس صغير وكبير ذكر وأنثى حرّ وعبد مسلم وغير مسلم ولا يقع بالفعل إلا بشروط له معينة فإن الإيمان والإسلام واجب على كل إنسان والأحكام كلها الواجبة واجبة على كل إنسان ولكن يتوقف قبول فعلها أو فعلها من الإنسان على وجود الإسلام منه فلا يقبل تلبسه بشيء منها إلا بشرط وجود الإسلام عنده فإن لم يؤمن أخذ بالواجبين جميعاً يوم القيامة وجوب الشرط المصحح لقبول هذه العبادات ووجوب الشروط التي هي هذه العبادات وقرىء بكسر الحاء وهو الاسم وبفتحها وهو المصدر فمن فتح وجب عليه أن يقصد البيت ليفعل ما أمره الله به أن يفعله عند الوصول إليه في المناسك التي عين الله له أن يفعلها ومن قرأ بالكسر وأراد الاسم فمعناه أن يراعي قصد البيت فيقصد ما يقصده البيت وبينهما بون بعيد فإن العبد بفتح الحاء يقصد البيت وبكسرها يقصد قصد البيت فيقوم في الكسر مقام البيت ويقوم في الفتح مقام خادم البيت فيكون حال العبد في حجه بحسب ما يقيمه فيه الحق من الشهود والله المرشد والهادي لا رب غيره ولما كان قصد البيت قصداً حالياً لأنه يطلب بصورته الساكن فلله على الناس أن يجعلوا قلوبهم كالبيت تطلب بحالها أن يكون الحق ساكنها كما قال اطلبوني في قلوب العارفين بي فهذا معنى الكسر فيه وهو الاستعداد بالصفة التي ذكر الله أن القلب يصلح له تعالى بها ومن فتح فوجب عليه أن يطلب قلبه ليرى فيه آثار ربه فيعمل بحسب ما يرى فيه من الآثار الإلهية وهذا حال غير ذلك فبالكسر يقصد الله وبالفتح يقصد القلب لما ذكرناه .


هل أعجبك الموضوع ؟

مواضيع مشابهة :

ضع تعليقا

جميع الحقوق محفوظة ©2015-2013